بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
إن الاختلاط محرمٌ شرعا؛ سواءً في التعليم أو العمل، وسائر الاجتماعات الخاصة والعامة، ولا عهد لأهل الإسلام باختلاط نسائهم بالرجال الأجانب؛ والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها:
الدليل الأول:
قول الله تعالى في سورة النور: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾[النور:30-31].
فهذه الآية محكمةٌ بينةٌ في بيان مقصدٍ من مقاصد الشارع؛ وهو تزكية المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم وحفظ فروجهم.
فإذا نظرنا إلى الاختلاط المنظم الذي يراد منه التقريب بين الجنسين ساعات طويلة وشهور مديدة، (وليس مجرد اجتماع في مكان عام لا لبث فيه سوى لحظات يقضي فيها كل حاجته ويمضي) هل هو محقق لهذا المقصد ومتفق معه أو منافٍ له؟
سيكون جواب المنصف: إن هذا منافٍ له أشد المنافاة، حتى قالت إحدى الغربيات: "إن الاختلاط جريمة في حق الإنسانية", والحق ما شهدت به الأعداء.
وقد خلصت دراسة حديثة من جامعة (هارفرد) بأن المدارس النسائية (مقارنة بالمدارس المختلطة) تُحقق أهدافاً تربوية ودرجات عليا في العلوم والقراءة والقيم الذاتية, وتغيب المشاكل السلوكية والعلاقات بين الجنسين، والتخلف عن الحضور وغير ذلك.
وهذا ما يراد لنا أن نكتشفه ولكن بعد التجربة العملية والتضحية بالكثير، مع الإغماض عن التجارب والدراسات الحديثة؛ فضلاً عن اطراح الأحكام الشرعية والآداب المرعية. والله المستعان.
الدليل الثاني:
قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ [النور:31].
إن من كمال الشريعة السمحة عدم التفرقة بين المتماثلات وعدم الجمع بين المتنافيات، وكل مسلم صحيح الديانة، مستقيم العقل، سليم القلب؛ يعرف حكم الاختلاط بمجرد تأمله هذه الآية الكريمة.
فهل يظن عاقل أن الشارع الحكيم ينهى المرأة لابسة الخلخال من تحت الثياب أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع الرجال حسه، ثم يبيح لها أن تجلس معه وتدرس بجواره مع ما يصاحب ذلك (ولا بد) من سماع صوتها، ورؤية شيء من جسدها، وربما الاحتكاك بها؟ إن الشارع منـزّه عن ذلك من غير شك والحمد لله.
الدليل الثالث:
في العلم والتعليم؛ فقد أخرج البخاري (101) ومسلم (2633) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال, فاجعل لنا يوماً من نفسك. فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار). فقالت امرأة: واثنتين؟ فقال: (واثنتين).
وهذا يفيد أن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام في التعليم بلا اختلاط؛ وإلا لما قالت النساء ما قلن.
ولو كان ذلك جائزاً لما تأخر نساء الصحابة عن تلقي العلم، ولما طالبن بمجلسٍ يخصهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهن من هن في الحرص على الخير.
ولذا كان تبويب البخاري رحمه الله على هذا الحديث: (باب: هل يجعل للنساء يوماً على حِدة في العلم).
الدليل الرابع:
في التعليم أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (98) من حديث ابن عباس, أن صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال فظن أنه لم يُسمع النساء, وفي رواية: (ثم أتى النساء, فوعظهن وأمرهن بالصدقة...). وقد بوّب عليه: (باب عظة الإمام النساء وتعليمهن).
وهذا يدل على أن مجلس النساء متميزٌ عن الرجال وخاصٌ بهن.
الدليل الخامس:
في الصلاة والانصراف منها؛ فقد أخرج البخاري (870) من حديث أم سلمة قالت: كان صلى الله عليه وسلمإذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم, قال: (نُرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال).
قلت: والقائل هو ابن شهاب، كما في (837، 849)، وهذا الذي قاله قالته قبله راوية الحديث أم سلمة رضي الله عنها، ففي رواية في صحيح البخاري (850) قالت: كان يسلم، فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتبين أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان من أجل انصراف النساء قبل الرجال؛ لئلا يؤدي هذا إلى اختلاط الرجال بالنساء.
مع أن وقت الانصراف من الصلاة قصير, فأين هذا من اختلاط الشباب والفتيات لساعات عديدة وأشهر طويلة؟
الدليل السادس:
في الصلاة أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (872) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يصلي الصبح بِغَلَس، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يُعرفن من الغلس، أو لا يعرف بعضهن بعضاً. وقد بوّب عليه: (باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد).
فهذا يفيد أن النساء كن ينصرفن فور انتهاء الصلاة, لذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "لا يُعرفن من الغلس" ولم تذكر الرجال؛ لأنهم يمكثون حتى تنصرف النساء.
الدليل السابع:
في الصلاة أيضاً؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بترك باب في المسجد خاص بهن لدخولهن وخروجهن:
قال أبو داود (462): (باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال): عن عبد الله بن عمرو وأبو معمر، عن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء). قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وقال غير عبد الوارث: "قال عمر"، وهو أصح. حدثنا (463) محمد بن قدامة بن أعين، عن إسماعيل، عن أيوب، عن نافع قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بمعناه. وهو أصح. اهـ من أبي داود.
قلت: يعني أن الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر رضي الله عنه.
وقد أخرجه في موضع أخر (571) فقال: (باب التشديد في ذلك), وقد بوب قبل ذلك: (باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد) وذكر حديث عائشة (569) رضي الله عنها: لو أدرك صلى الله عليه وسلمما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منع نساء بني إسرائيل. ثم ذكر حديث عبدالله بن مسعود (570) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها).
ثم روى أبو داود (464) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير، عن نافع قال: (إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يُدخل من باب النساء).
قلت: رواية عبد الوارث أخرجها الطبراني في الكبير والأوسط, وأبو نعيم في أخبار أصبهان, والباغندي في أماليه, وابن بشران؛ جميعم من طريق عبد الله بن عمرو.
وأما ما يتعلق بالترجيح بين الروايتين؛ فعبد الوارث وابن علية متقاربان في أيوب, فكلامهما من كبار الحفاظ, لذا قدم بعض الحفاظ ابن علية، وقدم آخرون عبد الوارث, وأما رواية: بكير (وهو ابن الأشج) عن نافع أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء، فليست صريحة في أن عمر هو الذي أمر بذلك,؛ إذ هي محتملة أن يكون الذي أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتنفيذا لذلك كان عمر رضي الله عنه ينهى أن يدخل الرجال من باب النساء.
وإذا كان الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر رضي الله عنه, فهو من الخلفاء الراشدين الذين أمر عليه الصلاة والسلام بالعمل بسنتهم, فقال في الحديث الصحيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
ومن المعلوم أن القرآن الكريم كان ينزل بموافقة عمر رضي الله عنه, ولذا كان عليه الصلاة والسلام يستشيره في الأمور, وفي هذا الخبر أن ابن عمر عمل بذلك فلم يدخل من هذا الباب الذي خصص للنساء حتى توفاه الله عز وجل.
وفي هذا الحديث مشروعية جعل أبواب خاصة للنساء في المساجد, ويلحق به دور التعليم والعمل وغيرهما.
والحكمة في ذلك ظاهرة؛ وهي ألاّ يختلط الرجال بالنساء، مع أن مدة الدخول والخروج قصيرة, فكيف إذا كان هذا الاختلاط في أوقات طويلة؟
ويلاحظ أن في صلاة النساء مع الرجال عدة أمور:
أولاً: الأولى بالمرأة أن تصلي بالبيت، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث، منها قول صلى الله عليه وسلم: (وبيوتهن خير لهن)، مع أن الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام عن ألف صلاة، ولا يستثنى من ذلك إلا صلاة العيدين، فقد جاء الحث للنساء بالصلاة في المصلى، وهما لا يقعان إلا مرتين في العام.
ثانياً: إذا خرجت المرأة إلى المسجد فعليها أن تخرج بدون أن تتطيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليخرجن تفلات)، ويدخل في ذلك الثياب الحسان ونحو ذلك مما يكون سبباً للفتنة. قال أبو محمد بن حزم: (ولا يحل لهن أن تخرجن متطيبات ولا في ثياب حسان...). وقال ابن كثير: (يجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال، بظهور زينة ولا ريح طيب).
وقال ابن دقيق العيد: (فيلحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا فما أوجب هذا المعنى التحق به).
ثالثاً: تخصيص باب لهن يدخلن منه ويخرجن، حتى لا يختلطن بالرجال.
رابعاً: أنهن يصلين خلف الرجال، ولا يختلطن بهم؛ بل الأفضل لهن أن يبتعدن عن صفوف الرجال قدر الإمكان، لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها).
وهذا يؤكد حرص الشارع على عدم اختلاط النساء بالرجال، وقد وصف مجرد قرب النساء للرجال بالشر؛ فكيف بالمخالطة؟ لا شك أنها شرٌ من باب أولى.
خامساً: أنهن إذا صلين مع الرجال، فعليهن أن ينصرفن مباشرة بعد انتهاء الصلاة إلى بيوتهن، وأما إمام المسجد ومن معه من الرجال، فينتظرون قليلاً حتى ينصرف النساء، كما سن لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذه الأمور الخمسة أدلتها ظاهرة.
وهناك أمر سادس اختلف فيه: وهو شهود النساء للصلاة في المساجد، هل هو خاص بالصلوات الليلة لكون الليل أستر لهن، أم أنه يشمل صلاة النهار أيضا؟ لأنه إذا أبيح لهن أداء صلاة الليل في المساجد، فتكون صلاة النهار من باب أولى، فيه خلاف بين أهل العلم. فأين هذا مما نحن بصدده من جلوس الشباب والشابات في مقاعد الدراسة مختلطاً بعضهم بالبعض الآخر، وينظر أحدهم إلى الآخر، ويتحدث بعضهم إلى بعض، ولذا لا يعرف هذا في الإسلام.
الدليل الثامن :
في البيعة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس في معزلٍ عن الرجال؛ وقد بوب البخاري في صحيحه فقال: (باب: بيعة النساء، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم).
الدليل التاسع:
في الطُرُقات والأسواق؛ فقد أخرج أبو داود (5272) من حديث: عبدالله بن مسلمة، عن عبد العزيز (بن محمد الدراوردي)، عن أبي اليمان (الرحال)، عن شداد بن أبي عمرو بن حِماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه أنه سمع صلى الله عليه وسلميقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق؛ فقال صلى الله عليه وسلمللنساء: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق)، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. قلت: وشداد فيه جهالة.
وخالف شداد؛ الحارث بن الحكم، فرواه (كما عند الطبراني والبيهقي في الشعب) عن أبي عمرو بن حماس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء سراة الطريق). قلت: وهذا منقطع، والحارث فيه جهالة.
وللحديث طريقٌ أخرى صححها ابن حبان (5601)؛ من حديث: مسلم بن خالد (الزنجي)، عن شريك بن أبي نمر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء وسط الطريق). قلت: ومسلم بن خالد الزنجي من مشاهير الفقهاء في زمانه، حتى قال إبراهيم الحربي:كان فقيه أهل مكة. وكان من أهل الفضل كما قال ابن سعد: كان فقيهاً عابداً يصوم الدهر، وكان كثير الغلط في حديثه.
قلت: إنما تكلموا فيه لسوء حفظه كما قال ابن سعد.
والحديث بمجموع طريقيه فيه قوّة؛ وله شواهد من حيث المعنى، كما في حديث أم سلمة المتقدم.