ألأدب الأندلسي فله طابع خاص في الخصائص لاسيما في الفنون الشعرية الذي امتاز بالوصف ورثاء الممالك الزائلة والاستنجاد بالرسول وكبار الصحابة ونظم العلوم والفنون والشعر الفلسفي، كما امتاز معانيه وأفكاره بالوضوح والبساطة والبعد عن التعقيد والتلميح إلى الوقائع التاريخية ولاسيما في رثاء الممالك الزائلة، أما ألفاظه وعباراته فقد كانت واضحة وسهلة والرقة والعذوبة وتجنب الغريب من الألفاظ واهتم بالصنعة اللفظية، وقد انتزع تصويره وخياله من البيئة الأندلسية الغنية بمظاهر الجمال الطبيعية وتزاحم الصور، أمابالنسبة للأوزان والقوافي فقد التزموا بوحدة الأوزان والقوافي بدايةً، ثم ابتدعواأوزانا جديدة لانتشار الغناء في مجالسهم ونوعوا في القوافي ومن ذلك الموشحات، من أشهر شعراء العصر الأندلسي هم أحمد عبد ربه، ابن برد، ابن هانئ الأندلسي وابن سهل الأندلسي الذي قال قصيدة المشهورة بالرداء الأخضر :
الأرض قد لبست رداءاًأخضـرا..... والطـل ينثر في رباها جـوهرا
هاجت فخلتُ الزهر كافـورا بها..... وحسبتُ فيها الترب مسكا أذفرا
وكأن سوسـنها يصافـح وردها..... ثغر يقبـل منهخـداً أحمـرا
والنهـر ما بين الريـاض تـخاله..... سيفا تعلق في نجـادأخضرا
شعراء العصر الأندلسي
-الوصف في الشعر الأندلسي خصائصه وتطوره مكننا تقسيم الأدب الأندلسي إلى عدة عصور أدبية تساعد في إعطاء رؤية عن حال الادب في كل مرحلة تاريخية مرت بها الاندلس: 1- مرحلة عصر الولاة: ويبدأ بالفتح ودخول الإسلام لهذه البلاد وبعد تعيين أول والي عليها من قبل بني أمية في المشرق، وبطبيعة الحال كان أدباء تلك الفترة من الوافدين المشارقة، لذلك اتسم شعر تلك الفترة بأنه مشرقي خالص بمعنى أن خصائصه هي خصائص الشعر المشرقي من حيث الموضوعات والأسلوب، فالموضوعات تقليدية من مديح ورثاء وهجاء...الخ والأسلوب- كذلك- يسير على الاتجاه المشرقي من لغة وصور وبناء للقصيدة. وكان من أبرز شعراء تلك الفترة:أبو الأجرب جعونة بن الصمة، وأبو الخطار حسام بن ضرار، وإن لم يصلنا غير القليل من أشعارهما. 2- عصر بني امية: ويبدا بتولية عبد الرحمن الداخل الحكم، وبناء مجد لبني أمية على أنقاض مجدهم الضائع في المشرق على يد العباسيين. وفي هذه الحقبة ظهر لنا أول جيل من الأندلسيين العرب، واذا نظرنا لحالة الأدب لوجدناه متطبعا بالطابع المشرقي، فالشعراء يسيرون فيه على تقاليد المدرسة المشرقية المحافظة، غير ان هناك سمات ثلاث تميز شعراء تلك الفترة عن شعراء المشرق وهذه السمات هي: 1-التجديد الموضوعي، بمعنى طرق موضوعات جديدة أو موضوعات قديمة ولكن بطريقة جديدة، كمعالجة الشاعر أبي المخشي للعمى، اذا أصيب به بعد أن كان مبصرا فأخذ يصور حاله وحاله زوجه المتأثرة بما أصابه. 2-التركيز العاطفي:وهو تركيز الشاعر على عواطفه ونقلها عبر نصه الشعري. 3- التجويد الفني: ويعني ايصال المعنى بطريقة الايحاء. ومن ابرز شعراء تلك الفترة: عبد الرحمن الداخل ،وأبو المخشي، وحسانة التميمية، والحكم بن هشام. ولا يفوتني أن أذكر لك بانه في هذا العصر ظهرت لنا الموشحات كخطوة جديدة جريئة في عالم الشعر العربي.وقد مهد هذا الفن لظهور موضوعات جديدة نحو الخمريات، والغزل الشاذ، فالموشحات كما نعلم كانت مرتبطة إلى حد كبير بالغناء واللهو.وبذلك انتقل بعض الشعراء إلى مرحلة التجديد الشعري من طرق موضوعات جديدة نحو الخمريات، ووصف الطيعة، والزهد كرد فعل لظاهرة تفشي اللهو والمجونيات. اما الأسلوب فقد حدث فيه تجديد كذلك من استعمال للأوزان القصيرة، ومن سهولة اللغة الشعرية، ومن استمداد الصور من الحياة الحضارية..الخ 3- عصر ملوك الطوائف: ويبدأ من انتهاء حكم بني أمية أثر الفتنة القرطبية التي ألحقت الدمار بكل شيء في قرطبة رمز العلم والمجد انذاك. وقد تميز هذا العصر بروح التنافس القوي بين ملوكه فأغلبهم كان محبا للعلم وللادب، بل منهم من كان يقرض الشعر كالمعتمد بن عباد ملك اشبيلية، وكان هؤلاءالملوك يزجلون العطايا للشعراء مما ساهم في تطور الشعر في تلك الفترة.، وبسبب الاستقرار المادي والحضاري والعلمي وجدنا بعض الشعراء يعود مجددا للأسلوب الشعري القديم مع ربطه بالحضر، فظهر لنا أصحاب الاتجاه الوسطي أو المحافظ الجديد، وكان منهم ابن زيدون، وابن خفاجة، وغيرهما كثر. وهذا أبرز ملامح الأدب الأندلسي وأبرز اتجاهاته الادبية. وإذا أردت المزيد فيمكنك الرجوع إلى الكتب التالية: الأدب الأندلسي من الفتح إلى السقوط، لأحمد هيكل
الأدب الأندلسي(عصر الإمارات) لأحسان عباس والأدب الأندلسي عصري الطوائف والمرابطين لأحسان عباس.
الشعر الاندلسي:ظل الشعر الأندلسي أول ألأمر يقتفي آثار الشرق وينسج على منواله باعتبار أن هذا الأخير كانت له مكانته المرموقة في قلوب الأندلسيين لأنه مهبط الوحي ومصدر الحضارة ومهد الفكر العربي المبدع.وهذا ما يفسر استشراف كبار الشعراء الأندلسيين وتطلعهم للتمثل بزملائهم المشارقة ومحاذاتهم بل والتكني بكناهم أيضا. وقد ظهرت آثار التقليد والمحاكاة جلية في شعر ابن عبد ربه وابن شهيد وابن دراج القسطلي... ومن جانب آخر ظهرت حركة طبعها نوع من التحرر حيث لم يعد عمل الشعر قاصرا على الأغراض والمعاني القديمة بل انصرف إلى وصف البيئة الأندلسية وأحوالها وصفا لم يتردد مثله في الشعر العربي دقة ورقة وجمالا وخيالا حسب تقدير إحدى الرؤى النقدية. ومن أبرز شعراء هذه الحركة التجديدية ابن زيدون وابن عمار والمعتمد ومن المتأخرين ابن حمدين وابن خفاجة وابن الخطيب
التركيبة البشرية للمجتمع الأندلسي:
فتح العرب بلاد الأندلس في أواخر القرن الأول الهجري، و استوطنوها زهاء ثمانية قرون، استطاعوا خلالها أن ينشروا دينهم و لغتهم ، و أن يقيموا فيها مجتمعا إسلاميا جديدا له سماته الخاصة و طابعه المميز.
و لما كانت الحياة العقلية لأي أمة هي وليدة مجتمعها بكلّ ما يمثله من بيئة طبيعية شعب و نظم تحكم حياته و سلوكه و ضروب النشاط الإنساني التي يضطلع بها ، فسوف نحاول هنا التعرف بإيجاز إلى مكونات المجتمع الأندلسي تلك التي تضافرت على صنع حياته الفكرية من علمية و أدبية.
و نبدأ أولا بالكلام عن عناصر الشعب الأندلسي ، و العناصر التي سادت الأندلس خمسة: العرب ، و البربر، و الموالي، و المولدون، و أهل الذمة من نصارى و يهود.
1- العرب:
فالعرب كانوا يحسون إحساسا قويا بنوع من الأرستقراطية نابع من غلبتهم على الأسبان و لبربر و إدخالهم في الإسلام و كذلك من لغتهم التي تفوق غيرها ، و لعل شعور التعالي هذا من قبل العرب ، هو ما كان يولد ثورة البربر عليهم أحيانا.
و كان العرب في مستهل الفتح قلة بالقياس إلى العناصر الأخرى ثم أخذت أعدادهم تتكاثر و تنتشر في أنحاء شبه الجزيرة الأندلسية بفعل الاستيطان و التوالد بالمهاجرين العرب الذين أخذوا يرحلون إليها أفواجا تلو أفواج بعد الفتح الإسلامي.
2- البربر:
و هم يشاركون العرب في البداوة و الإسلام و الشجاعة و العصبية القبلية، و كانوا في أوّل أمرهم أكثر عددا و قوة من العرب و كان تيار هجرتهم متصلا بحكم الجوار.
و قد تأثرت جماعات البربر المستقرة في الأندلس بالبيئة الجديدة تأثرا عظيما ، و لم يكد الجيل الأول منهم ينقضي حتى طلع الجيل الثاني أندلسيا قد نسي أصله و اتخذ الأندلس وطنا .
و من الناحية العقلية كانوا يجتهدون في التعرب : يتعلمون العربية ، و يقبل من له ميل منهم على دراسة الإسلام و التفقه فيه ، و من الناحية المعاشية ارتبطوا بجيرانهم من أهل البلاد عن طريق المصاهرة ، و منهم من اتخذ لم اسما عربيا زيادة في التعرب.
و كانوا أسرع اندماجا من العرب في البيئة الجديدة ، فقد حال بين العرب و بين الاندماج السريع الكامل لغتهم و اعتزازهم بعصبيتهم العربية، أما البربر فلم يكن هناك ما يحول بينهم و بين الاندماج ، فلا
عصبية و لا لغة مكتوبة ، و مع الزمن أصبحت غالبيتهم في جملة العرب الأندلسيين ، و كان لهم أعظم الأثر في بناء الأندلس الإسلامي.
3-الموالي:
و هم مولى بني أمية ، و هؤلاء يمثلون ثلاث طوائف : من دخلوا الأندلس إبان الفتح ، و من دخلوا في ولاء البيت الأموي من أهل البلاد و قد كان لهؤلاء الموالي اليد الطولى في إقامة دولة عبد الرحمن الداخل.
هذه العناصر الثلاثة هي التي دخلت الأندلس مع الإسلام أو بالإسلام و وضعت أساس إسلام الأندلس و عروبته ، أما الجزء الأكبر من عناصر سكان الأندلس ، فهم : المولدون، و أهل الذمة من نصارى و يهود.
4-المولدون:
و هم العنصر الناشئ من تزاوج العرب بالبر ، أو العرب بالإسبانيات و الصقالبة ، و قد خرج من هذا الزواج بين عربي و بربرية ، أو عربي و إسبانية جيل جديد مولد يشبه ما كان في الشرق من تزاوج بين عربي و فارسية ، و ظل اسم المولدين يطلق على هذا العنصر حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، ثم تلاشت هذه التسمية بسبب اختلاط الناس ، و تحول أ÷ل الدولة الإسلامية في الأندلس إلى أندلسيين دون تمييز ، و من صفات المولدين من النساء الأسبانيات : الشجاعة و الذكاء و الجمال و كان لهم في الأندلس تاريخ طويل.
و قد حبب العرب في هذا الزواج ما عرف عن الأسبانيات و البربريات من جمال و بياض بشرة و اصفرار شعر و زرقة عيون و هي صفات يحبها العربي لأنها جديدة عليه.
أهل الذمة:
و هم الأسبان الذين بقوا على مسيحيتهم و لم يدخلوا في الإسلام هؤلاء كانوا يرون أن البربر و العرب دخلاء عليهم، و أنهم أحق بملك بلادهم ، و يندرج مع هذا العنصر الإسباني المسيحي يهود البلاد من حيث معاملة المسلمين لهم ، فقد ضمن المسلمون لهذين العنصرين حريتهم و أدخلوهم في ذمتهم ، مقابل الجزية و الخراج على ما تقضي به الشريعة الإسلامية.
و في مستهل القرن الرابع الهجري أنشأ الخليفة عبد الرحمن الناصر جيشا من المماليك يوطد به سلطته، و كان هؤلاء المماليك من " الصقالبة " و هو إسم كانوا يطلقونه على أسرى الحرب من جميع البلاد الأوروبية ، و على من وقع في أيدي المسلمين من الرقيق، و بهذا أدخل الناصر على الأندلس عنصرا جديدا هو عنصر الصقالبة مقلدا في ذلك الخليفة المعتصم العباسي الذي أنشأ جيشا من الأتراك الذي يعتمد عليه لما تعب من العرب(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
انظر ظهر الإسلام ، أحمد أمين، ج:3 ص: 21
و هكذا امتزجت كل هذه العناصر و الأجناس بعضها ببعض امتزاجا تسرب في عقولهم كما تسرب في دمائهم، و كانت لهم نزعة عقلية جديدة ساعد على تكوينها بالإضافة إلى عملية الامتزاج ، بيئة طبيعية غنية ، حافلة بشتى المناظر و صور الجمال ، و كان من أثر ذلك كله أن أصبحت لهم مميزات عقلية خاصة و صفات لم تكن لغيرهم من العرب الخلص(1)
أثر الطبيعة في الأدب الأندلسي
لقد لحق شعراء الأندلس في شعر الطبيعة شعراء المشرق ثم تقدموا عليهم و فاقوهم فيه و التنوع في موضوعاته و التجديد و الابتكار في صوره و أشكاله.
و الملاحظ على ما خلفوه من شعر في هذا الفن أنهم لم يقفوا به عند اتجاه واحد ، و إنما نرى لهم فيه اتجاهات شتى ، و لعل منشأ هذا التنوع في الاتجاهات ، راجع إلى أنّ محبتهم لطبيعة الأندلس الجميلة كانت عميقة الجذور في نفوسهم ، و من ثمّ فإنهم كانوا كلما التقوا بها أو واجهوها في مكان أو موقف ما ، هزّت مشاعرهم و شاعريتهم ، و ألهمتهم من معانيها ما لا يملكون له دفعا إلاّ بالتعبير عنه تمجيدا لهذه الطبيعة و تغزلا بها.
و مع تعدد الاتجاهات في شعر الطبيعة الأندلسي ، فإن هناك سمات و خصائص عامة تجمع بينها ثم ينفرد كل اتجاه بعد ذلك بسمات خاصة تقتضيها طبيعته .
و سوف نشير إلى أهم السمات العامة المشتركة ، و فيما يلي إجمال لذلك:
غلبة التشبيه و الاستعارة على أساليبهم ، فالتشبيه يرينا المعاني الممثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة و الأشباح القائمة، و الاستعارة تبرز المعاني أبدا في صورة حية مستجدة تزيد قدرها نبلا ، و كلا الأسلوبين : أسلوب التشبيه و أسلوب الاستعارة يدل على خصب خيال و سموه و سعته و عمقه.
تشخيص الأمور المعنوية و تجسيمها ، و ذلك بإبرازها في صورة شخوص و كائنات حيّة ، يصدر عنها كل ما يصدر عن الكائنات الحية من حركات و أعمال.
بث الحياة و لنطق في الجماد ، لما لذلك من طرافة و وقع حسن في النفوس و من أمثلة ذلك قول أبي إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسي في وصف جبل:
ـــــــــــــ
بلاغة العرب في الأندلس ، أحمد ضيف، ص: 8
وقور على ظهر الفلاة كأنه طوال الليالي ناظر في العواقب
أصخت إليه و هو أخرس صامت فحدثني ليل السرى بالعجائب(1)
و قال : ألا كم كنت ملجأ قاتل و موطن أوّاه تبتل تائب(2)
و كم مرّ بي من مدلج و مؤوب و قال بظلي من مطي و راكب(3)
فالجبل هو جماد قد تحول بالتوسع الذي هيأته الاستعارة إلى إنسان حي ناطق يروي ما مر به من تجارب.
الاستعانة في رسم و تلوين الصور المستوحاة من الطبيعة ببعض فنون البديع المعنوي و اللفظي من مثل الطباق و المقابلة و المبالغة، و حسن التعليل ، و الجناس ، و هذه قليلة في صور متقدمي شعرائهم ، كثيرة في صور متأخريهم.
إطلاق العنان للخيال ليرتاد عالم الفكر ، و يختار منه المعاني التي توحي بالحضارة و الطرافة.
التصرف في أرق فنون القول و اختيار الألفاظ التي هي مادة لتصوير الطبيعة و إبداعها في جمل و عبارات تخرج بطبيعتها و كأنها التوقيع الموسيقي.
تصوير شعرهم لطبيعة الأندلس الحية ، و طبيعته الصامتة ، و طبيعته الصناعية الناشئة من استبحار الحضارة و العمران.
قلما يأتي شعر الطبيعة عندهم كغرض قائم بذاته، اللهم إلاّ في القطع القصار و على هذا فأكثره يأتي ممتزجا بأغراض أخرى كالغزل و المدح و الخمر(4)
ـــــــــــــــــــــــ
أصخت إليه: استمعت و أصغيت إلى صوته.
الأواه: المتأوه المتضرر، و تبتل: انقطع عن الدنيا ، و أخلص إلى أمر الله و طاعته.
قال يقيل قيلولة: و القيلولة : نوم الظهيرة ، و المطي: جمع مطية و هي في الأصل الناقة يركب مطاها و قد تطلق على كل ما يركب من الدواب.
الأدب العربي في الأندلس ، الدكتور عبد العزيز عتيق ص: 295.
الغزل
ابن زيدون و ولاّدة
كان كلّ شيء في بيئة الأندلس الجميلة يغري بالحب و يدعو إلى الغزل، و من ثم لم يكن أمام لقلوب الشاعرة إلاّ أن تنقاد لعواطفها، فأحبت و تغزلت، ثم خلفت وراءها فيضا من شعر الغزل الرائع الجميل.
و أوضح سمات هذا الغزل تتجلى في رقته الناشئة من التفنن البياني في وصف محاسن من يقع الشعراء في حبهن من نساء الأندلس الجميلات، و في تصوير مشاعرهن المتضاربة اتجاههن، من وصل و هجر ، و قرب و بعد، و إقبال و إعراض ، و ما شابه ذلك من التجارب التي يدور حولها موضوع الغزل.
و كان المتوقع أن ينفعل الشاعر الأندلسي بمؤثرات الحياة الجديدة من طبيعية و اجتماعية فيبدل من نظرته إلى المرأة ، و من مفهومه لقيم الجمال فيها، و لكن شيئا من ذلك لم يحدث، و ظل الغزل الأندلسي غزلا حسيا بعيدا عن تصوير خلجات النفوس ، و ما يضطرب فيها من شتى المشاعر.
فإلى جانب تصوير المواقف التي تنشأ عادة بين المحبين من قسوة و لين ، و وصل و هجران ، و شكوى و عتاب ، و دموع و بكاء، و ما شابه ذلكن وقف الغزل عند حدود الوصف المادي لما يتعشقه الشاعر من أعضاء جسم حبيبه، فاقامة قضيب بان، و الوجه قمر ، و الشعر ليل،أو ذهب، و المحاجر نرجس ، و الأنامل سوسن ، و الخدود تفاح، و الخال على الخد هو كما يقول الشاعر:
ما أرى الخال فوق خديك ليلا على فلق(1)
إنما كان كوكبا قابل الشمس فاحترق
و هذا إن دلّ على شيء فعلى ذوق الشاعر فيما يستهويه من مفاتن حبيبته الظاهرة، و كل ما هنالك من فروق بين الشعراء في ذلك ، إنما هي في طرق التناول و التعبير ليس غير.
و مع ما يبدو على الغزل الأندلسي من سيما ت الأناقة و الدماثة، فإن نبض العاطفة الصادقة في أغلبه نبض ضعيف ، اللهم إلاّ عند أبي الوليد أبن زيدون شاعر الغزل الأندلسي الأوحد فإن عاطفة الحب في غزله عاطفة قوية صادقة.
و ابن زيدون هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي أصل أ÷له من بني مخزوم من قريش.
و لد ابن زيدون في رصافة قرطبة، في بيت علم و جاه و غنى، سنة 394هـ(1003-1004م) فبدأ تلقي العلم على أبيه ، و كان أبوه فقيها مشهورا معروفا بالنباهةو العلم و الأدب، و لما توفي
ـــــــــــــــــــــــــ
الفلق : الصبح.
( في البيرة سنة 405هـ)) كفله جده لأمه القاضي أبو بكر محمد بن إبراهيم بن سعيد القيسي( 355-432هـ) فأخذ عن جده هذا أيضا شيئا من العلم ، و قد كان من شيوخه : الفقيه القاضي أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان و أبو بكر مسلم بن أحمد القرطبي النحوي و لكن يبدو أن عبقرية ابن زيدون قد صقلت بدراساته الخاصة و بالاختبار في الحياة، و قد ظهر ذلك واضحا في مرثيته لشيخه ابن ذكوان و هو بعد في العشرين من عمره(1)
لما اضطرب أمر بني أمية في قرطبة قبل سقوط الخلافة نهائيا ، و فرار هشام الثالث عنها سنة 422هـ، كان أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور وزيرا له، خاف أهل قرطبة من عواقب الاضطراب و الفوضى و وجدوا في أبي حزم بن جهور حاكما قديرا فولوه أمر المدينة، و قد أنشأ أبو الحزم في قرطبة دويلة من دويلات الطوائف.
و اتصل ابن زيدون بالدويلة الناشئة باكرا و وزر لأبي الحزم جهور ( وزارة استشارة لا وزارة عمل)و قد كان أبو حزم و ابن زيدون صديقين من قبل ثم كانت لابن زيدون من أول أمره ، أمال سياسية سنحت الآن فرصة الوصول إلى شيء منها ، بذلك قذفت ريح السياسة بابن زيدون في تيار الحياة العامة بما فيها من خصومة و مكائد، و في هذا التيار التقى شراع ابن زيدون – في الحياة- بشراع ولادة ابنة المستكفي.
و أعظم الأحداث أثرا في حياة ابن زيدون و في أدبه كان اتصاله بولادة ، كانت ولادة ابنة الخليفة المستكفي من أمة له مستعربة من أهل مورورا اسمها سكرى، كان الخليفة المستكفي نفسه رجلا جاهلا ضعيف الإرادة و الرأي منغمسا في اللهو مستهترا به، و كانت سكرى امرأة خبيثة شريرة، أما ولادة فكانت امرأة جميلة بيضاء شقراء مائلة إلى الهبة ( الحمرة) كما كانت ذكية متأدبة بالفنون و الآداب قوية الشخصية و لكن جمالها و ذكاءها كانا يطغيان على ثقافتها و أدبها ، و لما قتل المستكفي ( 416هـ- 1025م) انفلتت ولادة من القيود الأخلاقية و الاجتماعية و جعلت دارها منتدى لرجال الأدب و انصرفت إلى كثير من أسباب اللهو.
في هذه الفترة اتصلت ولادة بابن زيدون و يبدو أنها كانت لدة له أو تصغره قليلا، أغراها أدبه و شبابه، و لقد نعم الحبيبان بأيام و ليال مشهورة عند الناس، كان من المنتظر أن يقع ابن زيدون في حب ولادة ، و كذلك كان من المنتظر أن تستجيب ولادة لدعوة الحب التي تمثلت في شباب ابن زيدون و في جاهه الاجتماعي و مكانته الأدبية ، و لعل ولادة كانت ذات أمال سياسية – كابن زيدون نفسه – فساقها ذلك إلى أن توثق صلتها به، و خصوصا بعد أن أصبح ابن زيدون أثيرا في بلاط بني جهور، على رأي من يعتقد أن صلة ولادة بابن زيدون قد نشأت قبل قيام الدويلة الجهورية.
غير أن هذا الحب الذي بدأ باكرا ثم اشتعل بأشد ما يكون من السرعة و بأشد ما يكون من العنف لم يعش في صفائه و وفائه سوى بضعة أشهر ثم أخذ يفتر بمثل السرعة التي كان قد نشأ بها ، إن قلب ولادة قد
ــــــــــــــــــــــــــ
1-انظر تاريخ الأدب العربي ، عمر فروخ ص: 590
تغير قبل قلب ابن زيدون ، و مرد ذلك إلى عدد من الأسباب فيما قيل ، و لكن أقرب تلك الأسباب إلى التصديق ، أن ابن زيدون تعلق بجارية سوداء بارعة في الغناء كانت لولادة ، قيل ليثير غيرة ولادة فتعود إليه ، و قد عاتبت ولادة في ذلك ابن زيدون ، كما أن ابن زيدون قد أقره على نفسه بأن ميله إلى الجارية السوداء كان ذنبا له ، و لكن ذنب أجبرته ولادة نفسها على ارتكابه ، و بعد فنحن لا نعلم اليوم مبلغ هذا الحب أكان صريحا للجارية السوداء نفسها أو حبا عذريا لوقع غنائها في قلبه.
و حاول ابن زيدون أن يسترد عطف ابن زيدون ببراعته الشعرية و لكن ولادة لم تأبه به، و لا ريب في أن حب ابن زيدون لولادة – برغم ما يقال فيه- قد أوحى إلى ابن زيدون أجمل قصائده، و لقد أخطأ ابن زيدون في الطريق الذي أراد أن يسلكه إلى قلب ولادة.
و أرادت ولادة أن تغيظ أبن زيدون و تجازيه غيظا بغيظ فألقت شباك هواها على رجل قليل الذكاء واسع الثراء قليل العلم عظيم الجاه هو الوزير أبو عامر بن عبدوس ثم قطعت صلتها بابن زيدون مرة واحدة، غير أن تعلق ابن زيدون بولادة ظل شديدا ، كما أن شعره ظل يفيض بذكرها أما هي فأخذت في هجائه هجاءا فاحشا مرا(1)
كثر حساد ابن زيدون و خصومه في بلاط بني جهور و في خارج بلاط بني جهور ، و كان أشد هؤلاء عداوة له و أعظمهم أثرا الوزير أبو عامر بن عبدوس فراح يلصق بابن زيدون تهما منها أنه كان ميالا لردّ الحكم إلى بني أمية ، تهمة كانت شائعة يوم ذاك فأمر أبو الحزم جهور بحبس ابن زيدون في 14 من رجب سنة 433هـ.
نجح ابن زيدون في الهرب من السجن بمساعدة أبي الوليد بن أبي الحزم، و طاف في قرطبة متخفيا لعله يلقى ولادة فلم يلقها ، فكتب إليها بالقصيدة المشهورة " أضحى التنائي بديلا من تدانينا " فلم ترد عليه ، ثم بعث إليها بالقصيدة " أني ذكرتك في الزهراء مشتاقا " فلم ترد عليه أيضا و أخيرا بعث بقصيدته الطائية " شحطنا و ما للدار نأي و لا شحط " إلى شيخه القديم أبي بكر مسلم ابن أحمد يشكو حاله و يستشفع به إلى أبي حزم ، فنجحت الشفاعة فاستعاد ابن زيدون رضا أبي حزم و استقر في قرطبة.
و في سنة 425هـ توفي أبو الحزم بن جهور و خلفه ابنه الوليد في حكم قرطبة فقرب ابن زيدون، ثم عاد قلب أبي الوليد بن جهور فتغير على ابن زيدون لأن نفرا من أصحاب ابن زيدون قاموا في قرطبة بمحاولة لإعادة دعوة الأمويين إلى قرطبة سنة 440هـ، خاف ابن زيدون مغبة الرجوع إلى قرطبة فذهب إلى اشبيلية و لحق بالمعتضد عباد ( 434- 461هـ) فنال عنده حظوة كبيرة و أصبح وزيرا و نديما و شاعرا للمعتضد ثم لابنه المعتمد من بعده.
و لما حدثت فتنة العامة في قرطبة ( بين المسلمين و اليهود) أرسل المعتمد نفرا من رجال الدولة لتهدئة الخواطر و جعل فيهم ابن زيدون ، و كان ابن زيدون مريضا فاستعفى المعتمد فلم يعفه –
ــــــــــــــ
1- انظر إلى عدد من أبيات هجائها في نفح الطيب 4/ 205-206
قيل لأن قلب المعتمد كان قد تغير على ابن زيدون ، اشتد المرض على ابن زيدون من أثر تلك الرحلة ثم توفي في أشبيلية في نصف رجب من سنة 463هـ و نقل جثمانه إلى قرطبة و دفن فيها.
ابن زيدون أديب بارع ، فهو شاعر مجيد و ناثر مقتدر حسن التصرف في النثر المرسل و النثر الأنيق المسجوع و ابن زيدون في شعره ثم في نثره خاصة كثير الاقتباس و التضمين من القرآن الكريم و الحديث الشريف و من الأمثال و الأشعار و له إشارات واضحة إلى نتاج الشعراء و الناثرين منذ الجاهلية و إلى معاصريه من العصر العباسي ، و أثر البحتري واضح جدا في ابن زيدون كما أن نثر الجاحظ واضح في نثره و لإبن زيدون ديباجة شعر رائعة تلقى على شعره وضوحا و حلاوة و موسيقى و تظهر فيها البراعة في الصناعة حتى سماه النقاد " بحتري المغرب " و هو أفضل شعراء الأندلس الذين حافظوا على عمود الشعر العربي و لسنا نعلم أنه نظم موشحات مع أن عصره كان قد امتلأ بالوشاحين .
و فنون ابن زيدون في شعره الغزل و النسيب ( أوسع فنون شعره و أجملها و أصدقها تعبيرا عن نفسه و ألصقها بأحداث حياته) ثم المديح و لم تكن غايته التكسب لاستغناء ابن زيدون عن الكدح في سبيل المعاش و لكنه كان يتقرب بمديحه من رجال الدولة و ذوي الوجاهة و خصوصا لما نزلت به محنته ثم أراد أن يدفعها عن نفسه ، باستشفاع هؤلاء الذين كانوا السبب في تلك المحنة ، و له أيضا أشياء في وصف الطبيعة و شيء من الرثاء العادي.
و ابن زيدون كاتب مترسل في أسلوب جزل متين و لكنه نتاج قدرة لا فيض وجدان ، و هو يميل إلى الصناعة و يتكئ على السجع والموازنة بين الجمل مع شيء من الترديد ، غير أ، السجع في رسالته الهزلية أكثر منه في الرسالة الجدية.
مختارات من آثاره:
لما هرب ابن زيدون من سجنه كتب إلى ولادة بهذه القصيدة و هي أشهر ما يحفظه الناس له ، من هذه القصيدة:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا و ناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم و بنا فما ابتلت جوانحنــا شوقا إليكم و لا جفت مآقينا(1)
تكاد حين تناجيكم ضمائرنــا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سودا ، و كانت بكم بيضا ليالينا
إذا جانب العيش طلق من تآلفنا و مورد اللهو صاف من تصافينا
ليسق عهدكم عهد السرور ، فما كنتم لأرواحنا إلاّ رياحيـنا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنـا إن طالما غير النأي المحبينا
و الله ما طلبت أهواؤنا بـدلا منكم ، و لا انصرفت عنكم أمانينا
ـــــــــــــــــــــــ
ما جفت مآقينا ( أطراف عيوننا): لم تنقطع عن البكاء. الجوانح: الأطراف. ما ابتلت جوانحنا : كانت الدموع تنهمر بكثرة على صدورنا و لكن حر صدورنا( من الحزن على فراقكم كان شديدا إلى درجة كانت تجفف هذه الدموع فورا)
ظاهرة رثاء المدن
من فنون الشعر التقليدية التي احتذى فيها الأندلسيون المشارقة " فن الرثاء " و لكن شعراء الأندلس لم يقفوا بهذا الفن عند حذ رثاء موتاهم من الملوك و الرؤساء و الأقارب و الأحباب، و إنما تراهم و لأسباب خاصة بهم يتوسعون فيه ، و يطورون مفهومه، و ذلك برثاء مدنهم تلك التي غلبهم عليها أعداؤهم النصارى، و أخرجوهم منها مشردين في أنحاء الأندلس.
كانوا يرون هزل ملوكهم و جد أعدائهم، و يرون ديارهم تنتزع منهم مدينة تلو مدينة، و يرون ملكهم الذي أقامه الآباء و الأجداد حصنا للإسلام و مجدا للعروبة تتداعى أركانه أمام أعينهم فيستولي عليهم الذهول ثم لا يملكون إلاّ أن يرثوه و يتفجعوا عليه بشعر يقطر أسى و دموعا.
و قد قال شعراء الأندلس و أكثروا القول في رثاء مدنهم و دولتهم حتى صار رثاء المدن و الممالك بسبب ذلك فنا شعريا قائما بذاته في أدبهم .
و قد نجد في أدب المشارقة شيئا من هذا القبيل ، كقصيدة ابن الرومي الي رثى بها مدينة البصرة عندما أغار عليها الزنج سنة 255هـ و استباحوا فيها الأموال و الحرمات و الأعراض و التي يقول فيها:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام شغلها عنه بالدموع الجسام
أيّ نوم من بعد ما حلّ بالبص رة ما حل من هنات عظام؟
و لكن المشارقة لم يتوسعوا في رثاء المدن و الممالك توع الأندلسيين ، و لذلك لم يظهر هذا اللون من الشعر في أدبهم كما ظهر في الأدب الأندلسي فنا قائما بذاته.
و لعل نونية أبي البقاء صالح بن شريف الرندي، هي أروع و أشجى ما شاجت به قريحة شاعر أندلسي ، لا في رثاء مدينة بعينها كالنماذج السابقة، بل في رثاء الأندلس كل الأندلس، و تصوير نكبته التي تعلو على كل فجائع الدهر، و تتحدى السلوان و النسيان ، و كأني بأبي البقاء فغي مرثيته الخالدة هذه يتحدث بلسان كل الأندلسيين و يشعر بمشاعرهم، و يترجم عن ثورتهم الدفينة المكبوحة فكل بيت فيها يطالعنا موّارا بالعاطفة مشحونا بالأسى مبللا بالدموع تفجعا على ما آل إليه حال الإسلام و المسلمين بالأندلس.
أحد و ثهلان: جبلان
حمص الأندلس: هي اشبيلية، و قد سمي بنو أمية عندما ملكوا الأندلس عدة مدن بأسماء مدن الشام
السلام عليكم