مقالة حول الشعور واللاشعور – مفصلة
هل كل مالا نفهمه عن طريق الشعور يمكن فهمه برده الى اللاشعور ؟
طرح المشكلة : كان الاعتقاد السائد عن الحياة النفسية انها شعورية ، حيث يمكن عن طريق الشعور فهم وتفسير كل فاعليات النفس . لكن ماهو ملاحظ أنه قد تصدر سلوكات تفلت من مراقبة الشعور ، ولا يستطيع من ثمّ تفسيرها ، الامر الذي أدى بالبعض الى إفتراض وجود اللاشعور ، والقول أنه يمكننا من فهم وتفسير ما يعجز الشعور عن تفسيره ؛ فهل فعلا يمكن ان نفهم باللاشعور مالا نستطيع همه عن طريق الشعور ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- يرى البعض ، أن الحياة النفسية قائمة على الشعور وحده ، وهو الاساس الذي تقوم عليه ، فيكفي ان يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكل واضح جلي على كل ما يحدث في ذاته من احوال وخبرات نفسية وكل ما يقوم به من افعال وسلوكات ، فالشعور هو اساس الحياة النفسية ، وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، وأن الشعور والنفس مترادفان ، ومن ثـمّ فكل نشاط نفسي شعوري ، وما لا نشعر به فهو ليس من انفسنا ، ولعل من ابرز المدافعين عن هذا الرأي الفيلسوفان الفرنسيان " ديكارت " الذي يرى أنه : « لا توجد حياة أخرى خارج النفس الا الحياة الفيزيولوجية » ، وكذلك " مين دو بيران " الذي يؤكد على أنه : « لا توجد واقعة يمكن القول عنها انها معلومة دون الشعور بها » . وهذا يعني ان معرفة المرء لذاته واحواله يتوقف على الشعور ولا وجود لما يسمى بـ" اللاشعور " .
1- ب- وما يثبت ذلك ، ما يعتمده أنصار هذا الموقف من حجة مستمدة – أولا – من " كوجيتو ديكارت " القائل : « أنا أفكر ، إذن أنا موجود » ، وهذا يعني ان الفكر دليل الوجود ، وان النفس البشرية لا تنقطع عن التفكير الا اذا انعم وجودها ، وان كل ما يحدث في الذات قابل للمعرفة ، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ، اما اللاشعور فهو غير قابل للمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود اذن لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها ، فلا نستطيع ان نقول عن الانسان السّوي انه يشعر ببعض الاحوال ولا يشعر بأخرى مادامت الديمومة والاستمرارية من خصائص الشعور .
ثـم إن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به معناه وجود اللاشعور ، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها ، ولا يمكن الجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور في نفسٍ واحدة ، بحيث لا يمكن تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر .
وأخيرا ، لو كان اللاشعور موجودا لكان قابلا للملاحظة ، لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعور ، لأننا لا نشعر به ، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي ، وماهو نفسي باطني وذاتي . وهذا يعني ان اللاشعور غير موجود ، وماهو موجود نقيضه وهو الشعور .
1-جـ- ولكن اذا كان صحيح أن كل ماهو شعوري نفسي ، فليس بالضرورة أن كل ماهو نفسي شعوري ؛ بدليل ما تثبته التجربة من صدور بعض سلوكات التي لا يستطيع الشعور تفسيرها ، وهذا معناه أن التسليم بأن الشعور هو اساس الحياة النفسية وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، جعل جزء من السلوك الانساني مبهما ومجهول الاسباب ، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ، الذي هو اساس الذي تقوم عليه العلوم .
كما أن الملاحظة ليست دليلا على وجود الاشياء ، حيث يمكن ان نستدل على وجود الشئ من خلال آثاره ، فلا أحد يستطيع ملاحظة الجاذبية او التيار الكهربائي ، ورغم ذلك فاثارهما تجعلنا لا ننكر وجودهما .
2- أ - بخلاف ما سبق ، يذهب الكثير من انصار علم النفس المعاصر ، ان الشعور وحده ليس كافٍ لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها ، كون الحياة النفسية ليست شعورية فقط ، لذلك فالانسان لا يستطيع – في جميع الاحوال – ان يعي ويدرك اسباب سلوكه . ومادام الشعور لا يستطيع أن يشمل كل ما يجري في الحياة النفسية ، فهذا يعني وجود نشاط نفسي غير مشعور به ، الامر الذي يدعو الى افتراض جانبا آخر من الحياة النفسية هو " اللاشعور " ، ولقد دافع عن ذلك طبيب الاعصاب النمساوي ومؤسس مدرسة التحليل النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى أن : « اللاشعور فرضية لازمة ومشروعة .. مع وجود الادلة التي تثبت وجود اللاشعور » . وعليه فالشعور ليس هـو النفس كلها ، بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – الى وجوده رغم تأثيره المباشر على سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
2 – ب- وما يؤكد ذلك ، أن معطيات الشعور ناقصة ولا يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل ما يجري في حياتنا النفسية ، بحيث لا نستطيع من خلاله ان نعرف الكثير من أسباب المظاهرالسلوكية كالاحلام والنسيان وهفوات اللسان وزلات الاقلام .. فتلك المظاهر اللاشعورية لا يمكن معرفتها بمنهج الاستبطان ( التأمل الباطني ) القائم على الشعور ، بل نستدل على وجودها من خلال اثارها على السلوك . ومن الحجج التي تثبت وجود اللاشعور وفعاليته في توجيه الحياة النفسية نذكر :
- هفوات اللسان وزلات الاقلام : إن الناس – في حياتهم اليومية – قد يقومون بأفعال مخالفة لنواياهم ومقاصدهم ، تظهر في شكل هفوات وزلات تصدر عن ألسنتهم واقلامهم تغير المعنى بأكمله ، وهذه الهفوات والزلات لها دلالة نفسية لاشعورية كالنفور والكره والغيرة والحقد .. وليست كلها صادرة عن سهو او غفلة كما يعتقد البعض .
- الاحلام : يعتبر الحلم مناسبة لظهور الميول والرغبات المكبوتة في اللاشعور في صور رمزية ، فالحلم – بالنسبة لفرويد – نشاط نفسي ذو دلالة لا شعورية يكشف عن متاعب وصراعات نفسية يعانيها النائم تحت تأثير ميولاته ورغباته ، فيتم تحقيقها بطريقة وهمية .
- النسيان : عندما يفشل الانسان في تحقيق رغبة أو تقترن الذكرى عنده بحادث مؤلم ، فإنه يلجأ الى كبت تلك الرغبة او الذكرى في اللاشعور ، ويتهرب من ذكرها أو تذكرها ، فتصبح بالنسبة اليه منسية مجهولة ، لكنها تبقى تؤثر في سلوكه .
- الحيل : وهي كثيرة كحيلة التعويض ، أي تعويض الشعور بالنقص ، كالشخص القصير الذي يلبس الاحذية ذات الكعب العالي . وحيلة النكوص ، وهي رجوع الشخص سلوكيا للوراء ، كالكبير الذي يلعب مع الصغار تحقيقا للرغبة او بحثا عن لذة ....
- كما أثبت الطب النفسي أن الكثير من الامراض والعقد والاضطرابات النفسية يمكن علاجها بالرجوع الى الخبرات والاحداث ( كالصدمات والرغبات والغرائز .. ) المكبوتة في اللاشعور.
2- جـ- لا شك ان مدرسة التحليل النفسي قد أبانت فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ، لكن اللاشعور يبقى مجرد فرضية قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ، غير أن المدرسة النفسية جعلتها حقيقة مؤكدة ، مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة النفسية من الشعور الى اللاشعور ، الامر الذي يجعل الانسان اشبه بالحيوان مسيّر بجملة من الغرائز والميول المكبوتة في اللاشعور.
3- إن الحياة النفسية كيان متشابك يتداخل فيه ماهو شعوري بما هو لاشعوري ، فالشعور يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية ، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب اللاواعي منها ، أي ان الانسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين : جانب شعوري وجانب لا شعوري ، وأن ما لا يستطيع الشعور تفسيره ، نستطيع تفسيره برده الى اللاشعور .
حل المشكلة : وهكذا يتضح ، أن الانسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين : جانب شعوري يُمكِننا ادراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور ، وجانب لاشعوري لا يمكن الكشف عنه الا من خلال التحليل النفسي ، ومادام الشعور وحده غير كافٍ لمعرفة كل ما يجري في حياتنا النفسية ، فإنه يمكن أن نفهم عن طريق اللاشعور كل ما لا نفهمه عن طريق الشعور