يقول الله تعالى فى سوره البقره :
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ...... (26)
بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن الجنة.. وأعطانا مثلا يقرب لنا صور النعيم الهائلة التي سينعم بها الإنسان في الجنة..
أراد أن يوضح لنا المنهج الإيماني الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن.. ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف كافرا بعبادته..
ولكن الإنسان الذي ارتضى دخول الإيمان بالله جل جلاله قد دخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى..
ومادام قد دخل العقد الإيماني فأنه يتلقى عن الله منهجه في افعل ولا تفعل..
وهذا المنهج عليه أن يطبقه دون أن يتساءل عن الحكمة في كل شيء..
ذلك أن الإيمان هو إيمان بالغيب.. فإذا كان الشيء نفسه غائبا عنا فكيف نريد أن نعرف حكمته..
إن حكمة أي تكليف إيماني هي: أنه صادر من الله سبحانه وتعالى،
ومادام صادرا من الله فهو لم يصدر من مُساوٍ لك كي تناقشه، ولكنه صادر من إله وجبت عليك له الطاعة لأنه إله وأنت له عابد..
فيكفي أن الله سبحانه وتعالى قال افعل حتى نفعل.. ويكفي أنه قال لا تفعل حتى لا نفعل..
الحكمة غائبة عنك.. ولكن صدور الأمر من الله هو الحكمة، وهو الموجب للطاعة..
فأنا أصلي لأن الله فرض الصلاة، ولا أصلي كنوع من الرياضة..
وأنا أتوضأ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالوضوء قبل الصلاة.. ولكنني لا أتوضأ كنوع من النظافة..
وأنا أصوم لأن الله أمرني بالصوم.. ولا أصوم حتى أشعر بجوع الفقير..
لأنه لو كانت الصلاة رياضة لاستبدلناها بالرياضة في الملاعب..
ولو أن الوضوء كان نظافة لقمنا بالاستحمام قبل كل صلاة..
ولو أن الصوم كان لنشعر بالجوع ما وجب على الفقير أن يصوم لأنه يعرف معنى الجوع..
إذن فكل تكاليف من الله نفعلها لأن الله شرعها ولا نفعلها لأي شيء آخر..
وكل ما يأتينا من الله من قرآن نستقبله على أنه كلام الله ولا نستقبله بأي صيغة أخرى..
ذلك هو الإيمان الذي يريد الله منا أن نتمسك به، وأن يكون هو سلوك حياتنا.
تلك مقدمة كان لابد منها إذا أردنا أن نعرف معنى الآية الكريمة:
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }
وعندما ضرب الله مثلا بالبعوضة.. استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي..
قالوا كيف يضرب الله مثلا بالبعوضة ذلك المخلوق الضعيف.. الذي يكفي أن تضربه بأي شيء أو بكفك فيموت؟.
لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلا بالفيل الذي هو ضخم الجثة شديدة القوة.
. أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان وضرب لنا مثلا بالبعوضة فقالوا:
" ماذا أراد الله بهذا مثلا "..
ولم يفطنوا إلى أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة..
لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها..
فلها عينان ولها خرطوم دقيق جدا ولكنه يستطيع أن يخرق جلد الإنسان..
ويخرج الأوعية الدموية التي تحت الجلد ليمتص دم الإنسان..
والبعوضة لها أرجل ولها أجنحة ولها دورة تناسلية ولها كل ما يلزم لحياتها..
كل هذا في هذا الحجم الدقيق.. كلما دق الشيء احتاج إلى دقة خلق أكبر..
ونحن نشاهد في حياتنا البشرية أنه مثلا عندما اخترع الإنسان الساعة.. كان حجمها ضخما لدرجة أنها تحتاج إلى مكان كبير..
وكلما تقدمت الحضارة وارتقى الإنسان في صناعته وحضارته وتقدمه، أصبح الحجم دقيقا وصغيرا،
وهكذا أخذت صناعة الساعات تدق.. حتى أصبح من الممكن صنع ساعة في حجم الخاتم أو أقل..
وعندما بدأ اختراع المذياع أو الراديو كان حجمه كبيرا.. والآن أصبح في غاية الدقة لدرجة أنك تستطيع أن تضعه في جيبك أو أقل من ذلك..
وفي كل الصناعات عندما ترتقي.. يصغر حجمها لأن ذلك محتاج إلى صناعة ماهر وإلى تقدم علمي..
وهكذا حين ضرب الله مثلا بالبعوضة وما فوقها.. أي بما هو أقل منها حجما..
فإنه تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى دقة الخلق..
فكلما لطف الشيء وصغر حجمه احتاج إلى دقة الخلق..
ولكن الكفار لم يأخذوا المعنى على هذا النحو وإنما أخذوه بالمعنى الدنيوي البسيط الذي لا يمثل الحقيقة.
فالله سبحانه وتعالى حينما ضرب هذا المثل.. استقبله المؤمنون بأنه كلام الله..
واستقبلوه بمنطق الإيمان بالله فصدقوا به سواء فهموه أم لم يفهموه.. لأن المؤمن يصدق كل ما يجيء من عند الله سواء عرف الحكمة أو لم يعلمها..
إن كل مصدق بالقرآن لا يطلب تأويله أو الحكمة في آياته..
ولذلك قال الكافرون: ( مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلاً )
ويأتي رد الحق تبارك وتعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين. ومن هم الفاسقون؟..
هم الذين ينقضون عهد الله.. أول شيء في الفسق أن ينقض الفاسق عهده.